منامة بوست (خاص): «الإطار الفلسفيّ» يُمثّل بنيةً مهمّةً للنظريّات السياسيّة، وبالتالي للحراك والفعل السياسيّ، هذا الأمر تجلّى بوضوح في الثورة الفرنسيّة، التي انبثقت من قِبَل عددٍ من الفلاسفة الذين أسّسوا الإطار العام لشكل المجتمع والحضارة الغربيين، واللذان يمثِّلان الآن فخر التطوّر الحضاريّ الذي يتشدّق به الغربيّون.
من هنا كان لا بدّ للمثقّف العربيّ أن يسعى لسبر غور «الأُطُر النظريّة»، وكشف أهميّتها، من ثَمَّ بلورتها وبناء شكلها الملائم للدولة.
في زيارتها الأخيرة إلى لندن، سعت الكاتبة اللبنانيّة «إيمان شمس الدين» إلى التأكيد على هذا المعنى، في ندوةٍ عُقدت بدار الحكمة في لندن، وحضرتها الجالية البحرينيّة.
«منامة بوست»، عملت هذا الحوار معها بخصوص هذا الموضوع، وسألناها عن مدى واقعيّة «الأُطُر الفلسفيّة» في ظلّ أزمة الأمن والسياسة وغيرهما، لتناول هذه الزاوية المهمّة من جَنَبةٍ بحرينيّة.
وهذا نصّ الحوار:
في زيارتكم الأخيرة إلى لندن قبل شهر، عُقِدت لكم ندوةٌ عن المعارضة والنظام «شبه السلطويّ»، فهل من الممكن أن تعطونا فكرةً نظريةً عنها؟
شمس الدين: يرى «ناثان براون»، أنّ الأنظمة «شبه السلطويّة» في دراساته التفصيليّة، هي تلك التي تسمح للمعارضة ببعض الحيّز لتنظيم نفسها والتنافس، لكنها تُنكر عليها أي إمكانيّة لتشكيل حكومة.
ومن وجهة نظري هي مرحليّة بينيّة وسطى في المراحل الانتقاليّة من السلطويّة الكاملة إلى الديموقراطيّة. ففي النظام «شبه السلطويّ» من الممكن أن تحتلّ فيه المعارضة أكثر من ٥٪ من القاعدة، أي ما يكفي – وفق براون- لطرح اقتراحات رسميّة للتصويت عليها، والانخراط في أعمال لجان ذات جدوى، فحينها قد يعتبر النظام أنّه عبر من الحالة السلطويّة إلى الحالة «شبه السلطويّة».
فلا المعارضة قادرة هنا على تمثيل إرادة الشعب كما يجب أن يكون في تحقيق المطالب التي تتعلّق بمصلحة المواطن وتوزيع الثروات وفق أُطُر العدالة، ولا هي مغلولة اليد كليًّا عن إحداث أي انزياحات مهمّة في مسيرة الإصلاح والنزوح نحو الدولة الدستوريّة، لكن حراكها هنا يبقى تحت إدارة السلطة ووفق مصلحتها لا مصلة الوطن والمواطن غالبًا.
ما مدى انطباق ذلك على المعارضة في البحرين؟
شمس الدين: الانطباق واضح فالمعارضة رغم خوضها للعمليّة الانتخابيّة سابقًا، لم تُشكِّل ثقلًا في البرلمان قادرًا على رسم سياسات عامّة للدولة أو حتّى لها دخالة في تشكيل الحكومة. فالشكل الخارجيّ يُعبّر عن ممارسةٍ ديمقراطيّة لكن الحقيقة ليست كذلك، كون نتيجة الانتخابات معروفة مسبقًا لأنّ النظام رسم شكل الدوائر الانتخابيّة بطريقةٍ تضمن له النتائج التي تناسبه وترك مساحة للمعارضة تتناسب والمخرجات العامّة للانتخابات التي لا تجعل المعارضة ثقلًا لا على مستوى تشكيل الحكومة أو المساءلة أو رسم السياسات. نعم هي موجودة في البرلمان ولها مساحات مناورة واستطاع بعض منتسبيها المشاركة في الحكومة وفق محاصصة معيّنة، لكنّها لا تشكّل في الواقع قوّةً تُحدِث توازنًا مع سلطة ونفوذ النظام.
هل في دائرة الممكن عدم «تدجين المعارضة»؟ ما هو السبيل إلى ذلك؟
شمس الدين: السياسة برمّتها هي فنّ الممكن، فطبعا يصبح من الممكن «عدم التدجين». والسبيل هو أوّلاً «مقاومة فعل التدجين»، ولذلك سبُلٌ كثيرة، منها ما يُعتبر أُسُس نظريّةٍ ثابتةٍ يمكن مواءمتها مع الواقع وفق معطياته، ومنها ما هو مرنٌ يعتمد بالأساس على معطيات الواقع.
فأمّا «الأُطُر النظريّة الثابتة» من وجهة نظري هي:
ـ المحافظة على الأهداف الاستراتيجيّة التي وضعتها المعارضة لنفسها وعدم التنازل عنها كرؤيةٍ تُشكِّل لها وجودها ومعالمها، والقدرة على تدوير الزوايا في العمل السياسيّ لتحقيقها مهما طال الزمن.
ـ المحافظة على القيم والمبادئ العامّة، خاصّةً الأخلاقيّة منها. فالسياسة فنّ الممكن وفق ضوابطٍ أهمّها النظر لكرامة الإنسان وأخذها بالحسبان وليس إهدار كرامته لتحقيق مصلحةٍ آنيّة على الخصم وأيضًا بما يحفظ حراكك العام لتحقيق العدالة .
ـ استخدام الأدوات الصالحة لتحقيق الإصلاح؛ لأنّ مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة» يتناقض تمامًا مع مبدأ الحفاظ على القيم والمبادئ العامّة.
ـ الحفاظ على التناغم وعدم التناقض بين النظريّة التي وضعتها المعارضة في العمل السياسيّ وبناء الدولة وبين التطبيق.
أمّا «الأُطُر المرنة»، فهي مساحات المناورة التي يمكن للمعارضة من خلالها تحقيق تقدّمٍ لها ليس كجهةٍ بذاتها وإنّما تقدُّمًا تخدم من خلاله مصلحة المواطن، فهناك بكلّ تأكيد مساحات مشتركة مع النظام ومصالح مشتركة يمكن الاستفادة منها في إحداث انزياح باتجاه الإصلاح، فالأصل السلميّة وليس المواجهة والعنف، خاصّةً مع قراءة الواقع الذي يفرض التدرّج في الإصلاح وتحقيق الأهداف؛ لأنّ الحراك الدفعيّ سيؤدّي لا محالة للصدام وبالتالي لخسارة كلّ مساحات المناورة والمتقاطعات المشتركة.
أشرتِ في الندوة التي عُقدت في دار الحكمة بلندن إلى أنّ المعارضة تفتقد إلى «التنظير الفلسفيّ»، هل تجدين أنّ التنظير في واقعٍ سياسيٍّ مأزوم سيكون مقبولًا عند الناس؟ أقصد ما هي أهميّته الواقعيّة على الأرض؟
شمس الدين: «النقش ثم العرش»، هي قاعدة فطريّة يفترض موضوع التنظير مرحلةً أوليّة وسابقة على أيّ تشكيلٍ جماعيّ منظّم، فالتنظير هو الذي يُرتّب العمل الجماعيّ المؤسّسي وعلى أيّ أساسٍ تمّ بناؤه، وما هي الأهداف التي ينشدها، وما هي بنيته الفكريّة واستراتيجيّاته، وماذا يريد من الدولة، نعم هناك رؤًى تنضج أثناء ممارسة العمل وهناك رؤًى نظريّة تُعاد صياغتها بعد الممارسة، لكن هذا لا يعني عدم لزوم وجود نظريّة.
فالواقع المأزوم موجودٌ على طول الخطّ الإنسانيّ وليس وليد الصدفة أو وليد اللحظة، لكن هذا الواقع المأزوم لا يبرّر عدم التنظير ووضع البنية التحتيّة، وإلّا فنحن نبرّر لواقعنا المأزوم ونستسلم له.
والواقع المأزوم دافعٌ نحو الحفر أكثر في «التأسيس الفلسفيّ المعرفيّ» لوضع الأُطُر العامّة، ووضع الثوابت والتي من ضمنها تكلّمنا عنها في السؤال السابق والتي تحفظ المعارضة من «التدجين». وإلّا غياب البُنية سيجعل المعارضة أو أيّ كيانٍ سياسيّ أو غيره سيجعله عرضةً للاختراق و«التدجين والتهجين».
فحينما أُقرّر أن أكون كيانًا سياسيًّا معارضًا، فيُفترض أنّ قراري هذا يستدعي أن أضع سابقًا رؤيتي النظريّة حول أيّ كيانٍ أُريد وأي سياسةٍ انتهج وكيف هي المعارضة.
إن حجّة الواقع المأزوم هي أسلوبٌ للهروب من تحمّل مسؤوليّة التنظير والتأسيس تحت هذه الحجّة. فحقيقةً، لو كنّا ممّن يملك رؤًى تنظيريّة ومراكز دراسات استراتيجيّة لما كان لنا واقعًا مأزومًا أو لما وصلنا إلى هذا الشكل من المأزوميّة.
فالأنظمة المستبدّة مع غياب الوعي وتغييبه، لديها استراتيجيّات عمل أزمات تجرّنا إليها كي ننشغل عن بناء رؤًى وتأسيس استراتيجيّات تعيننا على تغيير الواقع. فهي تريد أن تجرّنا دومًا لواقعٍ هي رسمته وافتعلته وصنعت منه أزمات لإشغالنا به حتّى لا نتفرّغ لها من جهة، وللإصلاح والبناء من جهةٍ أخرى. فهل يُعقل أن ننشغل جميعًا بالواقع المأزوم؟ أم الأصح أن تُوزّع المهام بين من ينشغل بمعالجة الواقع وبين من يستفيد من هذه الفئة وتجربتها في الواقع ليُشيِّد لنا استراتيجيّات العمل الآنيّة والبعيدة المدى، مستفيدة من الواقع من جهة، ومن النظريّات التأسيسيّة في المجال السياسيّ وغيره من جهةٍ أخرى؟
هو واقعًا سؤالٌ كبير يتطلّب منّا إعادة النظر في مناهج تفكيرنا، خاصّةً التيّارات الإسلاميّة.
في رؤيتكِ إنّ نظرية «شبه السلطويّة» تستخدم أدوات كالديموقراطيّة لـ«تدجين» المعارضة وتمكينها من السلطة وإحرازها لاستقرارٍ اجتماعيّ موهوم، ما هو مصداق ذلك في البحرين؟
شمس الدين: أجبنا على ذلك في سؤالٍ سابق «سؤال ٣»، فمصداقه هي التجربة السياسيّة التي بدأت منذ عام ٢٠٠١ م – حسب ما أذكر- أي بعد المصالحة.
كيف يمكن أن تتحوّل البحرين ديمقراطيًّا؟ تحدّثي عن الموجة الثالثة لـ«هنتغتون» من واقع البحرين.
شمس الدين: التحوّل الديموقراطيّ في الخليج عامّةً يجب أن يمرّ بمخاضات مرحليّة لتعقيد تركيبة الأنظمة الوراثيّة القائمة على تحالفات العائلة مع القبيلة مع المؤسّسة الدينيّة الموالية للسلطة، ولاءً مستمدًّا من نصوصٍ دينيّة تُشرعن هذه السلطة من جهة، وتجعل لتلك المؤسّسة ولاية على عقول الناس.
لذلك عمليّة التحوّل تتطلّب بدايةً تفكيكًا تدريجيًّا لهذه التركيبة، تفكيكًا معرفيًّا نقديًّا من داخل هذه المؤسّسة الدينيّة، بل عملية تفكيك في «بُنية العقل الجمعيّ والشعبيّ الذي تمّ بناؤه على النظام الرعويّ وليس نظام الحقّ والواجب والعدالة والشراكة».
أما من الجانب السياسيّ – الجيواستراتيجيّ فهناك خمس أنماط للتحوّل الديموقراطيّ كما ذكرها «الأستاذ أحمد شهاب» في كتابه الحداثة المغلولة، حول ما أسماه المفكّر السياسيّ الأمريكيّ «صمويل هننغتون» بالموجة الثالثة من التحوّل الديموقراطيّ:
النمط الأوّل: التحوّل عبر مبادرة النظام، والثاني التحوّل عبر نقل السلطة، والثالث التحوّل بالقطيعة ، والرابع التحوّل بضغط الخارج، والخامس التحوّل بالعدوى الديموقراطيّة. ولمزيد من التفصيل من الممكن مراجعة كتاب «الحداثة المغلولة» حول تلك الأنماط.
من وجهة نظري أجد أنّ البحرين أمام ٣ خيارات من أنماط التحوّل وفق معطيات الواقع، وتجارب الدول:
النمط الثالث الذي يعتمد على قوّة المعارضة وضعف النظام وقدرة المعارضة على فرض واقعٍ جديدٍ وتعرية النظام من نقاط قوّته، ومن ثمّ الاستمرار والثبات على فرض واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ قادر على قيادة التحوّل الديمقراطيّ فيها.
النمط الرابع وهو تماسك النظام وعدم قدرة المعارضة على محاورته أو إحراز تقدّم في الواقع السياسيّ، فيمكن الاستعانة بالخارج لا من باب اختراق سيادة الدولة وإنّما لجوءًا قانونيًّا يستخدم القوانين الدوليّة والحقوق المُقرَّة في شِرعة الأمم في إنفاذها للواقع الداخليّ البحرينيّ، بضغط تلك الدول المُطبِّقة لتلك الشِرعة والمؤمنة بها والممارِسة لها وتملك نفوذًا عالميًّا وقدرةً على الضغط على النظام القائم لدفعه نحو التغيير. وفي الحالة البحرينيّة رغم مقايضات النظام للدول المؤثِّرة بـ«البترودولار» وسكوت تلك الدول النافذة عن انتهاكات هذا النظام الديكتاتوريّ بحقّ الشعب ومطالبه المُحقّة، إلّا أنّ هذه الدول ذاتها اليوم باتت تميل لحفظ مصالحها وتحت ثورات الشعوب وموجتها التي دخلت بها المنطقة، بدأت تميل لدعم الشعوب خوفًا على مصالحها ولمعرفتها أنّ هذه الأنظمة باتت مع التقادم تقلّ أمامها فرص الاستمرار مع قرب انتهاء صلاحيّتها التاريخيّة وفق السُنن التاريخيّة.
النمط الخامس وهو التحوّل بالعدوى الديمقراطيّة، وهذا اليوم بات ممكنًا مع تقدّم كلٌّ من تجربة اليمن والعراق في التحوّل الديمقراطيّ. فنجاج هاتان التجربتان سيكون له أثرًا كبيرًا على الواقع البحرينيّ؛ كونه مرتبطًا من جهةٍ بالجوار الجيواستراتيجيّ المكانيّ وبالتداخلات السياسيّة العالميّة والتغيّرات الإقليميّة التي باتت تفرض وجودها على الواقع، وباتت قادرة على تغيير معادلات وتحالفات عالميّة تخشى فيها الدول الكبرى على مصالحها الاستراتيجيّة التي تُهدّد وجودها وأمنها القوميّ، ما يدفعها لأجل حفظ أهدافها العامّة والثابتة أن تُغيّر من تكتيكاتها وتحالفاتها الآنيّة وفق براغماتيّة تهدف لمزيدٍ من الهيمنة والبقاء والتقليل من فرص هيمنة الخصم على مواقع نفوذها المُستمدَّة من بقاء هذه الأنظمة التي باتت هشّةً مع تقادم الزمن.
فهذه الأنماط هي خياراتٌ على المعارضة دراستها بشكلٍ عميق، واستغلال المتغيّرات الإقليميّة، مع عدم غضّ الطرف عن النمط الأوّل والثاني ولكن وفق معطيات الميدان الداخليّ والإقليميّ، فضعف نمطٍ لا يعني إهماله وعدم الالتفات إليه.
ما هو الأُفُق الذي تستنتجينه من سير الأحداث الحاليّة في البحرين، وإلى أين يتّجه الواقع الفكريّ للمثقّف البحرينيّ في السياق السياسي؟
شمس الدين: «صراع المحاور» اليوم يفرض واقعه على الملفّ البحرينيّ بما يجعله واقعًا مرتبطٌ بهذا الصراع وسير الأحداث، منذ بدء الثورة إلى الآن يكشف أنّ مجرى الأحداث يتّجه تصاعديًّا لصالح المعارضة، ولكن هذا أيضًا يعتمد ليس فقط على ذلك الصراع وعلى المتغيّرات الإقليميّة وإنّما أيضًا على ما تملكه المعارضة من قدرةٍ وتكتيكٍ ورؤيةٍ قادرة على الدفع الداخليّ نحو التغيير. فعاملٌ خارجيّ مرتبطٌ بالتغيّرات الإقليميّة وصراع المحاور، وعاملٌ داخليّ يعتمد على المعارضة ذاتها .
أمّا الشِقُّ الثاني من السؤال، فنحن نعلم أنّ التجربة الميدانيّة يُفترض أن ترفد الفكر والثقافة بمزيدٍ من المعارف والرؤى، وتطوّر معطياته أفكاره وتفتح له آفاقًا جديدةً على مستوى التنظير والتطبيق. ولا يمكن أن نُنكر وجود تقدّم على مستوى النخبة من جهة، وتقدّم على خلق نخب جديدة من التجربة الأخيرة لها، صحيحٌ أنّها ما زالت في طور الصناعة ولكنّها قادرة على الدفع في تجديد الحِمل الثقافيّ الموجود لدى النخب السابقة، ومواكبة روافدها برؤى جديدة مُستمدّة من الواقع، تُطوِّر وتنهض وترفد الثقافة العامّة التي يجب أن تصبّ في صالح المُنجز الحضاريّ للبحرين وترفده باتجاه مزيدٍ من التقدّم.
لكن لا أنكر أنّ هناك أزمة أيضا لدى النخب أظهرتها الثورة وهي أزمة فعلٍ ثقافيّ، حيث طغى على كثير من النخب التنظير والنقد البعيد عن الواقع والموضوعيّة، بل تورّط بعضهم بمناقدة ذاته من خلال مخالفة رؤاه وتنظيراته تحت ضغط المصلحة الشخصيّة.
فإشكاليّة الفعل الثقافيّ تكمن في مدى تأثيره في الوعي الشعبيذ، والثورة واقعًا كشفت عن تقدّم الشعب الثائر بمسافات عن كثيرٍ من النخب.
هنا نحتاج أن نقف ونعيد مراجعة الواقع الثقافيّ ومصاديق مفهوم النخبة، ومراجعة الفعل متى يكون ثقافيًّا ومتى يصبح نوعًا من السفسطة.
فالمثقّف غالبًا يمارس وظيفة الإصلاح والتغيير والنهوض ليس من على برجٍ عاجيّ وإنّما من رحم مجتمعه وآلامه وآماله وتطلّعاته التي يعمل المثقّف فيها على التطوير والتشذيب، ومن ثمّ التطبيق عمليًّا بكلّ ما يملكه من أدوات صالحة ومتاحة للنهوض بتطلّعات هذا المجتمع.
الربيع العربيّ واقعًا، كشف لنا عن واقعٍ مأزومٍ للمثقّف، خاصّةً مع القيم والمبادئ التي تخلّى عنها بسهولة حينما لم تخدم مصالحه. ويبقى الفعل الثوريّ صانعٌ لكثيرٍ من المعارف ولكثيرٍ من المثقّفين، شريطة ألّا يبقى في دائرة الانفعال اللحظيّ وإنّما يتطوّر لفعلٍ استراتيجيّ قادرٍ دومًا على تقديم الجديد الصالح ومحافظًا على ثوابته، وتبقى نقطة هامّة وهي أن يكون هناك مساحةٌ ودورٌ وظيفيّ للمثقّف بالوجدان الشعبيّ كما للعالم ذلك الدور ولكن مع اختلاف الوظائف، وهذا يتطلّب واقعًا تجسيرًا كبيرًا للعلاقة بين العالم والمثقّف لتعود فائدته على الجميع.