إيمان شمس الدين
الجغرافيا والتاريخ يلعبان دورًا هامًّا في تحديد ثروات الدولة، ومن ثم كشف قدراتها وأهميّتها وحتى أعدائها والمطامع التي يمكن أن تحيط بها.
وعادة، حضارة الدول هي نتاج تفاعل المجتمع مع الجغرافيا والتاريخ والثقافة، حيث ترفد الثقافة بنية الحضارة، ومن ثم تتفاعل الحضارة لتطوّر المجتمع وترفد ثقافته وهكذا.
واليمن اليوم، هو أحد المصاديق الذي يحتاج وقفة عند ملابسات الحدث فيه،وإطلالة على أهميّته من عدّة زوايا لمحاولة عمل مقاربة لواقع الأحداث وأسباب التحرّكات العسكريّة ضدّه.
ولكي تكون القراءة دقيقة، نحتاج مقاربة الحدث من حيث الزمان ومعطياته السياسيّة في المنطقة التي ينتمي إليها اليمن، خاصة في الدول المشابهة في جغرافيّتها وتاريخها الحضاريّ له وهما سوريا والعراق.
إذاً سنسلّط الضوء على اليمن من عدّة زوايا وجهات:
١. الجغرافيا
٢.التاريخ
٣.السياسة
1.جغرافيا اليمن:
يقع اليمن في جنوب غرب آسيا، بين سلطنة عمان والمملكة العربيّة السعوديّة، ويشرف على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي عن طريق خليج عدن.
في شماله تقع شبه الجزيرة العربيّة «السعوديّة حاليّا»، بشريط حدوديّ بين البلدين، بطول ١،٤٥٨كلم، و٢٨٨ كلم مع عمان من جهة الشرق، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر، وتمتدّ الجبهة البحريّة لليمن على مساحة قدرها: ٢٥٠٠ كلم٢، ومقارنة مع مساحة اليمن الكليّة التي تبلغ ٥٢٧،٩٧٠ كلم٢، نجد أنّ سواحل اليمن طويلة نسبيًّا، وهو ما يجعلها ذات أهميّة قصوى، خاصة لشبه الجزيرة العربيّة.
هذه الجغرافيا لها بعدان:
الأوّل: بعد اقتصاديّ متعلّق بالثروات، إذ تمتلك اليمن ثروة مائيّة مهمّة ومتقدّمة تمتّعها بأرض زراعيّة تغنيها غذائيًّا، وتمكّنها من الاكتفاء الذاتي من جهة،ومن التصدير للخارج من جهة أخرى،إضافة للقدرة السياحيّة التي تعتبر مصدرًا اقتصاديًّا هامًّا مع توفّر الطبيعة الخلّابة الجاذبة.
وأيضا امتلاكها لأطول ساحل مائيّ مقارنة مع محيطها، يتكوّن من جبهتين مائيّتين، وإشرافها على باب المندب الذي يعتبر عنق البحر الأحمر، وأحد المضائق المهمّة لجهة تحكّمه بالطرق التجاريّة بين الشرق والغرب، حيث يمرّ عبره ٣.٣ مليون برميل نفط يوميًّا بما نسبته ٤٪ من الطلب العالميّ على النفط.إضافة إلى مرور ٢١ ألف سفينة سنويًّا تمثّل الشحنات التجاريّة التي تمرّ عبر الممر بما يعادل ١٠٪ من الشحنات التجاريّة العالميّة. وهو ما يجعله يحتلّ المرتبة الثالثة عالميًّا بعد مضيق هرمز ومضيق ملقا من حيث كميّة النفط التي تعبره يوميًّا وفق موقع ويكيبيديا.
ـ أهم الموانئ النفطيّة والتجاريّة في اليمن وفق موقع روسيا اليوم:
١. ميناء «نشطون» ويقع في محافظة المهر وقريب من سلطنة عمان.
٢. ميناء «الشجر» أحد الموانئ الرئسة لتصدير النفط في اليمن ويحتوي على خزانات للنفط.
٣. ميناء «المكلا» ويقع في منطقة خلف، وهو متعدّد الأغراض.
٤. ميناء «بلحاف» أحد الموانئ الرئيسة في اليمن، لتصدير النفط على ساحل البحر العربيّ بين عدن والمكلا.
٥. ميناء «عدن» يقع في منطقة خليج عدن على بحر العرب، وهو من أكبر الموانئ الطبيعيّة في العالم، ومركز تجاريّ عريق يعود إلى أكثر من ٣٠٠٠ سنة.
٦. ميناء «المحاء» وينقسم إلى مينائين: قديم وجديد.
٧. ميناء «الحديدة» يقع في منتصف الساحل الغربيّ لليمن على البحر الأحمر، وتمّ إنشاؤه بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي سابقًا «روسيا حاليًّا».
٨. ميناء «الصليف» يقع في الشمال الغربيّ لمدينة الحديدة علىِ منجم من الملح، ويتميّز بـأعماقه الكبيرة التي تصل إلى ٥٠ قدمًا.
هذا إضافة للجزر التي تمكّنها من الانتشار والتوزيع للمراكز التجاريّة والقواعد البحريّة، كجزيرة «سقطرى» التي تشكّل عقبة للقفز إلى البرّ الآسيويّ«شبه الجزيرة العربيّة»، وإلى البرّ الأفريقيّ.
أما الموارد الطبيعيّة الرئيسة التي يمتلكها اليمن، فهي النفط، والغاز، والزراعة، والأسماك والملح الصخريّ، والرخام، والودائع الطفيفة من الفحم، والذهب، والرصاص، والنيكل، والنحاس.
فتكمن أهميّة جغرافيا اليمن فيما ترفده من موارد اقتصاديّة هامّة له، ولمحيطه الجغرافيّ القريب والبعيد من حيث تحكمه في التجارة المحليّة والإقليميّة والعالميّة، خاصة فيما يتعلّق بالنفط والغاز مصدري الطاقة الأكثر استهلاكًا في العالم، ومصدري الثروة اللذين تعتمد عليهما دول الخليج.
البعد الثاني: بعد سياسيّ
اليمن الدولة الوحيدة في الجزيرة العربيّة ذات النظام الجمهوريّ، ينصّ دستوره على ديموقراطيّة الدولة، ويقرّ بالتعدّديّة الحزبيّة والسياسيّة، ويتبنّى نظامًا اقتصاديًّا حرًّا، كما أنّهيلتزم بالمواثيق والعهود الدوليّة المنصوص عليها في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، ويعتبر الشريعة الاسلاميّة المصدر الأساس للتشريع.
وكونه جمهوريّة فهذا يعني انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب كما الحال في الجمهوريّات الأخرى.
وعلاقة السياسة بالجغرافيا هنا وفق قراءة تحليليّة، نسلّط الضوء عليها في الزاوية السياسيّة لاحقًا.
٢. التاريخ
يعتبر اليمن دولة قديمة جدًّا، تعود إلى أواخر الألفيّة الثانية «ق.م»، قامت عليها ممالك عديدة: سبأ ومعين، وقتبان، وحضرموت، وحمير، وإليهم يعود تطوير إحدى أقدم الأبجديّات في العالم وهي ما عرف بخط المسند.
والتاريخ يكشف لنا عن أقدميّة اللغة في هذا البلد، وهو ما يدلّل على أسبقيّة ثقافيّة مهمّة كانت سببًا محوريًّا وهامًا في صناعة حضارته، وقيام دول عديدة فيه نتيجة عامل الثقافة والجغرافيا حيث الوفرة المائيّة والزراعيّة، وموقعه الذي أهّلها لئن يكون معبرًا تجاريًّا مهمًّا.
ودور الثقافة في تسخير عوامل الطبيعة والجغرافيا في صالح تطوير الدولة وبناء حضارتها.
وهذا ما يوضح سبب أسبقيّته في منطقة الخليج، بالتحوّل الديمقراطيّ وتبنّيه الجمهوريّة كشكل للدولة، والديمقراطيّة التعدّديّة كمنهج سياسيّ ينظم الحكم بين الحاكم والشعب.حيث رغم تركيبته القبليّة فإنّ أغلب القبائل حضر وقليل منهم بدو، يملك اليمني وعيًا متقدّمًا مقارنة مع محيطه الجغرافيّ، وهو ما يجعله في حال نهض بالدولة صانعًا للقرار، ومؤثرًا في قرارات المحيط.
٣. السياسة:
بالنظر إلى جغرافيا اليمن ومكوّناته الاجتماعيّة نجد التالي:
١. اليمن يعيش في منطقة الخليج العربيّ الذي تحكمه أنظمة وراثيّة، تتبنّى شكلًا للدولة بين ملكيّة وإمارة وسلطنة.
٢. تتشكّل المجتمعات في هذه الدول من القبائل غالبًا، والتي تتداخل فيما بينها بالنسب حيث يعود ولاء الفرد الأوّل فيها للقبيلة، خاصّة مع دعم الأسر الحاكمة للقبيلة ولثقافتها بل تبنّيها المنهج القبليّ في الحكم من خلال تحالفاتها مع القبائل القائمة على أساس السمع والطاعة، ورعاية الحكم للقبائل بالعطيّات والمنح والمواقع والنفوذ، بل أيضًا بالمصاهرة.
٣. يتكوّن اليمن أيضًا من القبائل التي تتداخل أيضًا فيما بينها بالنسب والمصاهرة، وتتداخل مع السعوديّة أيضًا بالنسب والمصاهرة.
يعتبر اليمن مع العراق الدولتين الجمهوريّتين الوحيدتين في منطقة الخليج، ويتبنّى اليمن نظام الأحزاب التعدّديّ، رغم النسيج القبلي الذي يتشكّل منه إلا أنّ أغلب القبائل في اليمن هم حضر، ومع رصيده الثقافيّ والحضاريّ، وموقعه الجغرافيّ وثرواته الاقتصاديّة، يكون الأكثر قدرة مع العراق في منطقة الخليج العربيّ على تقديم نموذج ديموقراطيّ في الحكم، يستطيع دمج القبائل فيه وتطويعها تحت مظلّة الدولة من خلال الأحزاب التعدّديّة، ويمكن الشعب من المشاركة في السلطة وإدارة ثرواته، والتحكّم في ممرات مائيّة هامّة تعطيه مواقع قوّة يستطيع من خلالها فرض نموذجه في الحكم في حال نجح.
وخاصة أنّ الشعب اليمنيّ شعب حيويّ يملك عزمًا وإرادة قويّة، وله رصيد حضاريّ وثقافيّ يمكنه من الاكتفاء الذاتيّ، سواء على مستوى الإنتاج الداخليّ في كافة المجالات العلميّة والصناعيّة والزراعيّة والاقتصاديّة، أوعلى مستوى التصدير للخارج مع امتلاكه عدّة منافذ مائيّة بين الشرق والغرب.
فنجاح اليمن كنظام جمهوريّ ديموقراطيّ يتبنّى الأحزاب ومكوّناته الاجتماعيّة تتشكّل من مجموعة قبائل، وهو نظام عربيّ يملك مؤهلات اقتصاديّة هائلة وموارد مائيّة ومنافذ بحريّة، يشكّل خطرًا وجوديًّا على الأنظمة الوراثيّة في الخليج، وهو أحد الأسباب الهامة التي على ضوئها تمّ رفض دمج اليمن والعراق مرارًا وتكرارًا في مجلس التعاون، كونهما الدولتين الجمهوريّتين الوحيدتين اللتين يتمّ انتخاب الرئيس فيهما من قبل الشعب، وهو ما يمكن أن يصبح عاملًا مؤثرًا في ما يسمّى بعدوى الديموقراطيّة أو التحوّل بالعدوى الديموقراطيّة، خاصّة مع نجاحهما كنموذجين.
وما يؤكّد هذا الهاجس هو ضمّ كلّ من المغرب والأردن لمجلس التعاون رغم بعدهما الجغرافيّ كونهما الملكيّات الوحيدة في المنطقة العربيّة، وهو ما يمكن أن يعزّز وجود هذه الأنظمة بضمّ من يماثلها في شكل الدولة والحكم لمنع سقوطهما في ظلّ حراكات شعبيّة مستمرّة في الدولتين تطالب بإصلاحات جوهريّة في الحكم.
ويتكوّن اليمن من أغلبيّة شعبيّة مسلمة تنقسم إلى مجموعتين رئيستين، هما: السنّة الشافعيّة المعروفين بقربهم من أهل البيت وسماحتهم في فهم الدين، والشيعة الزيديّة مع وجود أقليّة إسماعليّة.
إلا أنّ نتيجة عمليّات إفقار اليمن وإشغاله بحروب داخليّة كان سببًا هامًّا في عدم نهضته، حيث عمدت المملكة العربيّة السعوديّة بعد تنامي قدرتها الاقتصاديّة وتقدّمها كدولة نفطيّة، ومعرفتها بخطورة وجود يمن ديموقراطيّ تعدّدي على حدودها، عمدت إلى بسط نفوذها داخليًّا من خلال حزب التجمّع اليمنيّ للإصلاح الذي تعود جذوره إلى ما عرف بالجبهة الإسلاميّة عام ١٩٧٩م، وهي ميليشيا مرتبطة بالإخوان المسلمين، ظهرت بدعم سعوديّ خلال حرب الجبهة مع الجبهة الوطنيّة الديموقراطيّة، وهو معروف منذ فترة طويلة أنّه عميل للسعوديّة لعلاقة قياداته القبليّة والعسكريّة بالسعوديّة منذ الستينيّات، واعترافه بتلقّيه مرتبات من الحكومة السعوديّة والتي تموّل أيضا العديد من المدارس الوهابيّة التي يديرها الحزب بشكل غير رسميّ، وتعني هذه المدارس بتفريخ إرهابيّين ومتطرّفين.
فاستطاعت السعوديّة العمل على عدّة جبهات:
ـ تشكيل أذرعة سياسيّة لها في الدولة من خلال أحزاب ذات ثقل قبليّ.
ـ ضرب النسيج الاجتماعيّ دينيًّا من خلال نشر الفكر الوهابيّ المتطرّف، فتراجع لحسابه المسلمون الشافعيّة، وكما يعرف عن الوهابيّة أنّ عقيدتهم إقصائيّة تكفيريّة لكلّ من خالفها عقديًّا، وهذا بذاته كفيل بضرب البنى التحتيّة لليمن سواء اجتماعيّا أو سياسيًّا.
ـ اجتماعيًّا عمدت من خلال الوهابيّة إلى ضرب إسفين الخلاف المذهبيّ في مجتمع يشكّل نصفه الثاني الزيديّة طبعًا، ودعمت مستلزمات هذا التفكيك بفتح طرق التسليح بأسعار زهيدة تمكّن الجميع من شراء السلاح وحمله واقتنائه، وهو ما يمكن أن يحوّل أقلّ خلاف لشرارة اقتتال تغرق اليمن في مستنقع الحرب، إلا أن نتيجة الوعي الذي يمتلكه اليمنيّين وعمق حضارتهم الرافدة لثقفاتهم استطاعوا مرارًا وتكرارًا بحكمتهم تجنيب بلادهم حروبًا داخليّة، وسياسيًّا قوّضت البنية الديموقراطيّة في اليمن.
ومع فتح فضاء اليمن الاجتماعيّ للتسليح ازداد خطر تفتيت الدولة، وغياب دولة المؤسّسات والقانون، وانتشار الفساد وإضعاف اليمن وعدم تمكّنه من استغلال ثرواته، ومن ثم الهيمنة على قرارته ومنافذه البحريّة الهامة لمدّة طويلة من الزمن لحساب المملكة العربيّة السعوديّة ما يضمن لها عدم وجود يمن قويّ يشكل نموذجًا رائدًا في منطقتها كجمهوريّة ديموقراطيّة، بين أنظمة وراثيّة في الحكم.
ومع تنامي قوّة محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط، ودخول المنطقة صراعات محاور، وقيام ثورات الربيع العربيّ ومحاولات الالتفاف عليها، كان اليمن واحدًا من الدول التي خرج شعبها بكافة فئاته وأطيافه وقبائله الحضريّة لينتفض على حكومته طلبًا للنهوض بالدولة وإصلاحها، فدخلت السعوديّة بثقلها لإخماد الثورة بالمبادرة الخليجيّة التي لم تحقّق طموحات الشعب اليمنيّ في وطنه وما يملكه من ثروات، فقامت انتفاضة ثانية لكن هذه المرّة اختلف الوضع، كون من قاد الانتفاضة الثانية هذه المرّة هم «أنصار الله» التابعون للمذهب الزيديّالشيعيّ، وهو ما اعتبرته السعوديّة تهديدًا حقيقيًّا لوجودها وأمنها، باعتبار «أنصار الله» امتدادًا لمحور المقاومة، وهو ما يشكّل خطرًا وجوديًّا باتجاهات متعدّدة،أهمّهاعقديًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.
– عقديًّا، باعتبارها منذ عقود تعمل على وهبنة المجتمع اليمنيّ لتتمكّن من تشكيله بطريقة تتناغم مع المجتمع السعوديّ لوجود اليمن على حدودها بمساحات كبيرة، ولتداخل المجتمعين نسبيًّا وقبليًّا، واقتصاديًّا، كون باب المندب منفذًا بحريًّا هامًا واستراتيجيًّا للسعوديّة نفطيًّا وتجاريًّا،علمًا أنّ مضيق هرمز لا سلطة لها عليه، وسياسيًّا أنّ أيّ تحوّل ديموقراطيّ بوجود «أنصار الله» وقيادتهم يعني بذلك تشجيعًا لشعوب المنطقة بشكل عام، وللشيعة بشكل خاص سواء في المنطقة الشرقيّة في السعودية أو في البحرين المنتفض، كي يضغطوا باتجاه إحداث انزياحات سياسيّة تدفع باتجاه إصلاحات في النظام السياسيّ في البحرين، مع وجود أغلبيّة شيعيّة فيه وفي المنطقة الشرقيّة في السعوديّة ذات الأغلبيّة الشيعيّة أيضًا، وذات الأهميّة الاقتصاديّة حيث ثقل السعوديّة النفطيّ هناك.
إضافة إلى أنّ نجاح أنصار الله هو إحكام لطوق المقاومة في محاصرتها، وتقليص نفوذها من لبنان إلى سوريا، فالعراق فاليمن فعمان.
إذا السعوديّة أمام خطر وجوديّ يقوّض كلّ محاولات السنين الماضية في ترويض اليمن ووهبنته، والسيطرة عليه من خلال إضعافه وعدم تمكينه من ثرواته الماديّة والمعنويّة،ورغم أنّها في صراعها داخل سوريا والعراق لعبت بأدواتها التكفيريّة، واتبعت سياسة العصا والجزرة وحاولت في لبنان كذلك، فإنّ سبب دخولها حربًا مباشرة في اليمن هو الجوار الجغرافيّ الطويل على الحدود، وإشراف اليمن على منافذ بحريّة هامّة جدًا بل تعتبر من أهم المنافذ كما ذكرنا سابقًا، وهو ما يهدّد مستقبلها الاقتصاديّ، ولكن قد يكون العراق مجاورًا جغرافيًّا للسعوديّة وعلى حدود طويلة معها، وكان للسعودية سابقة تاريخية في الهجوم على العراق عسكريًّا، فلماذا لم تقم بذلك أيضا في العراق؟
الجواب أنّ العراق سابقًا كان مجاورًا للشاه، واليوم هو مجاور للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة من جهة، ولوجود مرجعيّة دينيّة استطاعت أن تحافظ على العراق من المنزلقات الخطيرة من جهة ثانية، ولإبداء حزب الله في لبنان استعداده لحماية المقدّسات في العراق أمام أيّ تهديد تكفيريّ من جهة ثالثة، ولعدم اختلائها في لبنان والعراق وسوريا بالهيمنة والقرار، بل هناك من يشكل ندًّا لها في الساحات هذه، فتضطر للعب بالأوراق السياسية لإبقاء الوضع على حالة لا غالب ولا مغلوب.
لكنّ اليمن، ومنذ عقود من الزمن هي من تهيمن على سياساته وثرواته وتحددها، ولم يكن هناك أحد ينازعها هذه السلطة فيه، ودخول أنصار الله الذين تعتبرهم امتدادًا لإيران وحزب الله على خط المواجهة وبهذه القدرة والإمكانيّة، خاصة مع تجربتها السابقة في حربها معهم، يجعلها تدرك واقعًا أيّ خطر يهدّد وجودها في المستقبل، بل قد نذهب أبعد من ذلك، إلى أنّ اليمن هو الساحة الأنسب التي يمكن من خلالها أن تنطلق السعوديّة تحت مظلة الجامعة العربيّة والقوّة المشتركة في تقويض مشروع محور المقاومة في كلّ من لبنان وسوريا والعراق.
وللتمهيد لذلك شاركت مقاتلاتها في الحلف الأمريكيّ لضرب داعش في سوريا، ومن ثم قامت هي بذاتها بحجّة أمنها القوميّ وتمدّد إيران في المنطقة بالهجوم على اليمن، وبالضغط الاقتصاديّ والرشوات المالية الكبيرة استطاعت أن تشرك معها عدة دول، ومن ثم تفعّل مشروع تشكيل جبهة عسكريّة عربيّة مشتركة كي تذهب بعد ذلك بحجّة التمدّد الإيرانيّ في المنطقة لضرب سوريا ولبنان والعراق للحجّة نفسها، في حرب عنوانها صراع الفرس المجوس والعرب المسلمين، وحقيقتها الصراع بين مشروع محور المقاومة ومشروع محور «الصهيوأمريكيّ» – أيّ الشرق الأوسط الكبير.
فهل تنجح السعوديّة في مبتغاها، خاصة بعد تمكّن إيران من الخطوة المهمّة في مشروع ملفّها النوويّ ودخولها في مصاف الدول النوويّة الكبرى؟
من الواضح من تصريحات المفاوضين الإيرانيّين أنّهم رفضوا زجّ أيّ ملف على طاولة مفاوضات النوويّ الأخيرة، كي لا يتم مقايضتهم من جهة، ولا يصادروا حقّ الشعوب من جهة أخرى لحسابهم الخاص، واستباق السعوديّة الاتفاق النوويّ بحرب كان محاولة جديدة للضغط على إيران من بوابة أخرى، وجرّها إما لحرب في المنطقة تضعف إمكانيّة التفاوض وتقلّل من فرص الاتفاق، أو تحسّن شروط المفاوضين وتقلّل من فرص انتصار إيران في الملفّ النوويّ، إضافة إلى جرّ إيران لتقديم تنازلات على الطاولة المستديرة، والاعتراف بالسعوديّة كلاعب إقليميّ مهم تبقي له سيطرته على اليمن، في قبال تحسين موقع المتفاوضين الإيرانيّين تحت هدير الطائرات ورائحة الجثث والدم.
إلا أنّ إيران فوتت الفرصة، وأكّدت أنّ اليمنيّين هم الأولى والأقدر على مواجهة الاعتداء، وأنّ مجرد صمودهم إلى الآن واستحواذهم على عدن ومأرب رغم القصف، يوضح عمق المأزق الذي تعيشه العربيّة السعوديّة كونها دخلت حربًا ليس لها أفق، ولا تعلم كيف تخرج منها.
وعدم رد «أنصار الله» إلى الآن بشكل مباشر على العدوان هو لإعطاء فرصة للحلول السلميّة، خاصة أنّ الرد قد يقود المنطقة برمّتها لحرب شاملة سيكون الخاسر الأكبر فيها المدنيّون والنظام السعوديّ، وستخلف انقسامًا مذهبيًّا خطيرًا بين شعوب المنطقة، لذلك نحن أمام سيناريوهات عدّة أهمّها هو الذهاب إلى عُمان كي تلعب دور الوسيط في إيقاف الحرب وجلب الجميع إلى طاولة المفاوضات في مكان خارج الرياض وعُمان، ودون الرضوخ لشروط السعوديّة، أو قد تتعنّت السعوديّة وتذهب إلى ما هو أبعد من القصف الجويّ، ما يدخل المنطقة في أتون حرب مستعرّة لا يحمد عقباها.
وأرى أنّ دخول إيران النادي النوويّ سيكسبها موقعًا متقدّمًا يحولها لثقل استراتيجيّ إقليميّ قادر على إعادة رسم التوازنات في المنطقة، بطريقة ترغم الآخرين على عدم العودة للغة السلاح وإبقاء طاولة الحوار والتفاوض الخيار الوحيد القادر على حلّ كلّ الأزمات والإشكاليّات على مبدأ السيادة واحترام إرادة الشعوب، خاصّة بعد خطاب أوباما واعترافه أنّهم جرّبوا كلّ الطرق مع إيران ولم ينجحوا إلا بالحوار.
ولو تعقل هذه الأنظمة لغة الحكمة فإنّ بقاءها اليوم بات مرهونًا بعمل إصلاحات حقيقيّة في أنظمتها السياسيّة، يكون للشعب فيها دور فاعل ومؤثر. فنموذج إيران سيؤرق هذه الأنظمة ويدفع شعوبها للضغط نحو اقتفاء الأثر وإحداث التوازن على الخطى الإيرانيّة نفسها.