«لا أفهم سببَ ممارسة الوشاية… يكفيك إن أردت أن تغيظ أحدًا أن تقول عنه شيئًا صادقًا»
«الفيلسوف الألمانيّ فريدريش نيتشه»
منامة بوست (خاص): بعد ثورةٍ شعبيّةٍ عارمةٍ أدّت إلى سقوط النظام الدكتاتوريّ للرئيس التونسيّ السابق «زين العابدين بن علي» في العام 2011، وفيما عُرِفَ بالربيع العربيّ، أخذت القوى السياسيّة باختلاف توجّهاتها وأطيافها تلملم أوراقها وتعيد تنظيم صفوفها، للبدء في بناء الدولة الديموقراطيّة التي يحلم بها أيّ شعبٍ يثور ضدّ استبداد النظام، وينجح في إسقاطه.
ومن الطبيعيّ أن تلجأ هذه القوى إلى الشروع بمرحلة تصفية «حساباتها السياسيّة» مع خصومها وأدوات النظام السابق ضدّ حراكها المعارض، ولا سيّما الخصوم في المجالين «الأمنيّ والإعلاميّ»، لاتخاذهما أبرز الأدوار لخدمةِ نظام الحكم، ولما يمثّلانه من أهميّةٍ لمجابهة المعارضين إبّان أيّ احتجاجاتٍ سياسيّةٍ تجتاح البلاد، وكونهما سلاحيْن فتّاكيْن يدافع بهما أيّ نظام عن بقائه أو «عمّا تبقى منه على سُدّة الحكم». حيث إنّ مثل هذه الأنظمة درجت على «غرس قيم الولاء لشخص الحاكم أكثر من قيم الولاء للأرض»، بعنوان الواجب الوطنيّ ومحاربة الخونة أو الانقلابيّين أو الإرهابيّين، أو أيّ ألقابٍ تُحفّز على رصّ أكبر عددٍ ممكنٍ من «السماسرة السياسيّين أو الموالين»، للوقوف إلى جانب شخص هذا الحاكم المستبد، وإحكام قبضته الحديديّة على أيّ حراكٍ شعبيّ يطالب بتغييرٍ جذريّ للواقع السياسيّ في البلاد.
وتعمد أغلب هذه الأنظمة إلى استخدام «الوشاة» ودسّهم في الأوساط الشعبيّة «أعينًا سريّة»، تُسجّل الأخبار والمعلومات عن تحرّكات الناشطين وأسمائهم وتنقلها للأجهزة الأمنيّة نظير «مكافأةٍ تافهةٍ» مقابل الإطاحة بأيّ شخص، أو لتغطية إخفاقات الأجهزة الأمنيّة وفشلها في الانقضاض على المعارضين. وعادة ما يقبل بهذه الوظيفة «الدنيئة»، فئة من «الذين يسيل لعابهم لشهوة المال أو الغرائز الأخرى، أو ممن يسعون إلى منصبٍ رسميّ، أو ممّن هم منبوذين في المجتمع، أو من يعانون من أمراضٍ نفسيّةٍ ونزعاتٍ انتقاميّة من الآخرين، وفي النهاية فضّلوا أن ينضمّوا لقائمة الخزي والعار والاشمئزاز، والسقوط المجتمعيّ». وقد استخدم التونسيّون في لهجتهم الشعبيّة الدارجة مفردة «القوّاد»، تعبيرًا عن «الوشاة» الذين تعاونوا بالدرجة الأولى مع النظام الدكتاتوريّ السابق لـ«بن علي»، رغم إنّها «كلمة لا تترجمها قواميس اللغة العربيّة إلا بوصفها وساطة أو سمسرة منظّمة للفحشاء والبغي». وقد تكون مناسبة في مثل هذه الحالات، فالوشاية «فاحشة مجتمعيّة»، و«فاحشة سياسيّة» إن مورست ضدّ المعارضين للاستبداد في أيّ مكانٍ في هذا العالم.
ولا تختلف سياسة نظام آل خليفة في البحرين عن أيّ نظامٍ مستبدٍّ وديكتاتوريّ، يواجه حراكًا شعبيًّا عارمًا يطالب بإنهاء القبضة الحديديّة لسلطة القبيلة على الدولة، منذ انطلاق الحراك الشعبيّ في 14 فبراير/ شباط 2011. فبعد سحق الاحتجاجات الشعبيّة في «دوّار اللؤلؤة»، بقلب العاصمة المنامة منتصف مارس/ آذار 2011، عمدت الأجهزة المخابراتيّة لحكومة البحرين إلى إطلاق «حملة وشايةٍ جماعيّةٍ» ضدّ المحتجّين وكلّ من شارك في هذه الاحتجاجات، والتعرّف على من سمّوهم «بالانقلابيّين وخونة الوطن أو الإرهابيّين»، عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ وصفحات «الفيس بوك وتويتر»، بنشر صورهم ووضع «دوائر حمراء» على وجوههم مساءً، ليكون مصيرهم صباح اليوم التالي الاختطاف من قبل العناصر الأمنيّة والمرتزقة، وأخذهم إلى مصائر وأماكن مجهولة، تنتهي بوجباتٍ منوّعةٍ من التعذيب الوحشيّ في زنازين وزارة الداخليّة البحرينيّة وأروقتها.
اختفت هذه الظاهرة على مدى السنوات الأربع الماضية، غير أنّها ستبقى وصمة عارٍ على جبين «القوّادين – الوشاة» للسلطة، ومشاركتهم الآثمة في الزجّ بآلاف الأبرياء ممن يفترض أن يكونوا شركاءهم في الوطن، بتهمة المعارضة لنظام القبيلة واستبدادها. ولا يعني هذا الاختفاء المؤقّت نهاية لها، أو «عفوًا عمّا سلف» لمن مارسها، إذ كما يقول المثل الشعبيّ: «حليمة تحنّ لعادتها القديمة»، ويبدو أنّ حليمة تستمتع كثيرًا في ممارسة «القوادة السياسيّة»، لإضفاء أكبر قدرٍ من المتعة لدى المعنيّين في السلطة، بدءًا من «حاكم البلاد حمد بن عيسى آل خليفة، وصولًا إلى أصغر مهووسٍ بسيلان دماء ضحايا فواحش وُشاتهم وقوّاديهم».
بدأت تعود «ظاهرة القوادة – الوشاية» من جديد بين الفينة والأخرى، ليس على يد «الوشاة العاديّين» الذي طغت عليهم شهوتهم لممارسة «الفاحشة السياسيّة»، بعد هذا الاختفاء المؤقّت، بل على يدٍ من يفترض به أن يكون ممثّلًا للشعب، ومدافعًا عن حقوق المواطنين، لكنّه فضّل أن يتحوّل إلى «كبير القوّادين – الوشاة»، علًّه «يتسنّم موقعًا يضاهي فُحشهُ في إثبات وطنيّته بممارسة «القوادة – الوشاية»، والاستمتاع بالإطاحة بأكبر عددٍ ممكن من المعارضين لإشباع غريزة الملك وإمتاع هَوَسِهِ بحصيلة قوّادته- وشايته».
النائب البرلمانيّ والسلفيّ المتشدّد «جمال بوحسن» كان يحلم بهذا اللقب وما يحمله من مميّزات منذ انتخابات العام 2010، لكنّه خسر فيها ترشّحه للبرلمان في الدائرة الثالثة بمحافظة المحرق، أمام أمين عام جمعيّة وعد المعارض «إبراهيم شريف، والمحامي عبدالله هاشم أمين عام حركة عدالة الوطنيّة، والمعروف بميوله للدفاع عن العناصر السلفيّة المتشدّدة، ليفوز بالمقعد النيابيّ عضو جمعيّة المنبر الإسلاميّ- الإخوان المسلمين – علي أحمد عبدالله».
امتازت الدائرة الثالثة بالمحرق في انتخابات العام 2002، 2006، و2010، بأنّها شملت مجمع 206 تحديدًا، الذي يحتضن غالبيّة شيعيّة من سكنة «فريق الحياك»، غير أنّ هذا المجمع اختفى من التشكيلة في انتخابات 2014، في ظلّ مقاطعة المعارضة، لتصبح مجمعات الدائرة التالية: 202، 204، 208، 210، 223، 224، 227. وقد فاز «بوحسن» في جولة الإعادة ضدّ منافسه «أحمد سند البنعلي، أمين عام جمعيّة الوسط العربيّ».
ولد «جمال بوحسن» في مدينة المحرق عام 1962، وحصل على دبلوم لاسلكيّ عام 1977 ودبلوم في الحاسب الآليّ من جامعة البحرين عام 1989، وبكالوريوس إدارة أعمال من جامعة القاهرة عام 2003، وماجستير من جامعة القاهرة عام 2009. وعمل في قسم الحاسب الآليّ بمؤسّسة نقد البحرين، ثمّ فني مبرقات في وكالة أنباء الخليج لينتقل بعدها للعمل ضابط جوازات في مطار البحرين الدوليّ بوزارة الداخليّة. ثم مدير إدارة الخدمات العامة بالمؤسّسة العامّة لجسر الملك فهد، حيث ترقّى إلى مدير الإدارة الماليّة، إلى أن جرت ترقيته مجدّدا إلى رئيس المشتريات، ولاحقًا إلى مسؤول المراقبة الأمنيّة، كما كان رئيس الشؤون الماليّة في مشروع جسر قطر البحرين، إلى أن اتجّه إلى القطاع التجاريّ حيث الرئاسة التنفيذيّة لشركة إمكان العالميّة للاستشارات ورئاسة مجلس إدارة شركة توريد للتجارة الدوليّة؛ مناصب مختلفة تنقّل فيها في زمنٍ قياسيّ ومدد وجيزة، إلى أن انتهى به المطاف في مجلس النوّاب الحاليّ.
اشتهر «النائب بوحسن بمواقفه المتشدّدة وهجومه البربريّ الشرس على الطائفة الشيعيّة» في البحرين وخارجها، وبتغريداته الطائفيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ «تويتر وانستغرام»، التي يصف فيها الشيعة بالخونة والمجوس والروافض، وعملاء الحرس الثوريّ في «إيران»، فضلًا عن تعاونه الوثيق مع «شبكة صوت البحرين المشبوهة»، التي تُدار من قبل جهاتٍ رسميّة، أقرب منها للأجهزة المخابراتيّة، «والشواذ» من الإعلاميّين المُهمّشين حاليًّا.
وأصبح جلّ اهتمام «بوحسن» استهداف المعارضة والمعارضين باستخدام لغة تحريض الأجهزة الأمنيّة في وزارة الداخليّة ضدّهم، منتهزًا تصاعد توتّر الأوضاع السياسيّة في البلاد. وأبرز استهدافاته كان للمحامي المسقطة جنسيّته «إبراهيم كريمي»، بتقديم دعوى جنائيّة ضدّه بتهمة إدارة حساب فريج كريمي، وانتمائه للحرس الثوريّ الإيرانيّ، وانتقاد كريمي لجريمة الحجّاج في «مشعر منى» العام الماضي، التي تورّط فيها النظام السعوديّ، ضمن سلسلة جرائمه الأخرى. ولم يغفل «بوحسن» عن استخدام هذه العناوين في تغريداته، «مجوسيّ، صفويّ، أعجميّ، مجنّس». كما قدّم بلاغًا لوزارة الداخليّة ضدّ «شبكة المحرق نيوز»، بتهمة الإساءة للعاهل السعوديّ سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، على خلفيّة انتقاد جريمة مذبحة الحجّاج «بمشعر منى».
ولم يشذّ النائب «بوحسن» عن زملائه النوّاب السابقين الذين اشتهروا بدعمهم الجماعات التكفيريّة المُسلّحة في سوريا بأموال التبرّعات التي جمعوها من البحرين، غير أنّ بوحسن فضّل الاتجاه بنشاطٍ بارزٍ في يوليو/ تمّوز، وأغسطس/ آب 2015، بدعم الأهوازيّين العرب ضدّ إيران، والمشاركة في مؤتمر منظّمة «مجاهدي خلق»، التي تطالب بإسقاط النظام الإيرانيّ. وقد انتقدت الأوساط المختلفة انخراط بوحسن في هذه الشؤون التي تسهم في توتّر العلاقات البحرينيّة مع دول المنطقة، لكنّ من انتقد بوحسن في هذا الجانب استهدف، مثل الصحفيّ في «صحيفة الوسط هاني الفردان»، وقد أوجد مجلس النوّاب تبريرًا لبوحسن لمشاركته في مؤتمر خلق، بذريعة أنّها مشاركة شخصيّة لا تمثّل الموقف الرسميّ، مثلما برّرت وزارة الخارجيّة البحرينيّة في وقتٍ سابق تسلل السلفيّ المتشدّد عادل المعاودة ونوّاب آخرين لسوريا، وتقديم الأموال للجماعات التكفيريّة. حتى عاد بوحسن في ديسمبر/ كانون الأوّل 2015، لتقديم مقترحٍ للبرلمان يطالب فيه حكومة البحرين بالاعتراف بما أسماها «دولة الأحواز»، وتقديم الدعم الماديّ والمعنويّ لها في المحافل الدوليّة، وشاركه في هذا المقترح عددٌ من نوّاب جماعة «الإخوان المسلمين» والتيّار السلفيّ، مثل، «محمد العمادي، عبدالله بن حويل، عبدالحميد النجار».
يبدو أنّ النائب بوحسن لم ينل «الشهرة» التي يطمح إليها بهذا التحرّك، فلجأ إلى«شطحةٍ أخرى»، يعود فيها إلى ممارسة «هوايته المُفضّلة»، وهي «القوادة – الوشاية»، وتحريض وزير العدل خالد بن علي آل خليفة للتعجيل بتنفيذ أحكام الإعدام بحقّ عددٍ من المحتجّين، منتصف أبريل/ نيسان 2016. كي يتسنى له إشباع «الهوس الطائفيّ» في نفسه، والغريب أنّ وزير العدل حتى هذه اللحظة لم يُجب عن تساؤل «بوحسن» بهذا الخصوص، فضلًا عن مطالبته في الشهر نفسه بزيادة ميزانيّة وزارة الداخليّة خلال مناقشة مشروع قانون الميزانيّة العامّة للدولة لعامي 2015 و2016، التي بلغت مصروفاتها المتكرّرة حوالي 330 مليون دينار في العام 2013، و355 مليون دينار في العام 2014. أما ميزانيّة المشاريع فتبلغ 30 مليون دينار لكلا العامين المنصرمين.
من الصعوبة أن يتخلّص المرء من «إدمان القوادة – الوشاية»، حيث يبقى هذا الشعور أشبه بشيءٍ يتحرّك داخله بشكلٍ مُلح، ويحفزّهُ على ممارسته بشكلٍ مستمر، ليُصبح جزءًا متأصلًا في سلوكيّاته، مثله مثل أيّ غريزةٍ أو فطرةٍ طبيعيّةٍ أخرى تتحرّك داخل الإنسان وتُحفزه على القيام بهذا السلوك، حتى ولو كان سلوكًا مُعيبًا أو فاضحًا، المهم هو إشباع حاجة هذا المدمن؛ وهكذا هو الحال بالنسبة «للنائب المدمن». وبالتزامن مع حملة التصعيد الرسميّة ضدّ المعارضة وقياداتها، التي كان آخرها الاستهداف الخطير لعالم الدين الشيعيّ البارز، آية الله الشيخ عيسى قاسم، بإسقاط جنسيّته البحرينيّة، كان لا بدّ لهذه «الغريزة أن تتحرّك داخل النائب المدمن للقوادة – الوشاية»، وتحفّزه على تحريض الأجهزة الأمنيّة -على الأقلّ- لاستهداف الاعتصام الشعبيّ المفتوح لمناصرة الشيخ قاسم، واستهداف المشاركين فيه، كما حدث منذ أيامٍ مع الموظّف في هيئة تنظيم سوق العمل، «المواطن علي عبدالرحيم»، الذي قضت النيابة العامّة بحبسه بعد تحريض الأخير على اعتقاله بتهمة الاشتراك بتجمّعٍ غير مرخّص، ليسارع بالتباهي بإرسال بشارة اعتقال عبدالرحيم عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ. والنتيجة، وقوع علي عبدالرحيم في قبضة الجلّادين 15 يومًا، كضحيّةٍ لشهوةِ «قوّادٍ – واشٍ»، أراد أن يُشبع غريزته المتحرّكة داخله باستمرار، في محاولةٍ مستميتةٍ لإرضاء الخصم الأكبر لآية الله الشيخ عيسى قاسم في إسقاط جنسيّته، وهو الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الذي صادق على هذا القرار في 20 يونيو/ حزيران 2016.
النائب جمال بوحسن فضّل أن يترك ممارسة عمله النيابيّ في مجلسٍ لا يملك صلاحيّاتٍ دستوريّة كافية، ولا يحظى بشعبيّةٍ مطلقةٍ بعد مقاطعة المعارضة، ولم يغفل عن أشياء كثيرةٍ وهو منغمسٌ في لذّة الاستمتاع بممارسة «القوادة – الوشاية» للملك وحاشيته، وفضّل ألا يغفل عن أيّ تفصيلٍ يُلحق الضرر بالطائفة التي تُشكّل الغالبيّة العظمى من سكّان البحرين. لكنّه غفل عن مستقبلٍ أحلك من ظلام الليل الذي مارس فيه «قوادته – وشايته»، وأحمى من هجير الشمس التي حرّكت فيه هذه الغريزة.. إنّها لحظة تفرض معادلاتٍ لا يوجد فيها مثل هذا الملك.. ولا مثل هؤلاء «القوّادين – الواشين» أبدًا أبدًا..