منامة بوست (خاص): هنا الدراز.. حيث الرباط المقدّس، ذودًا عن الدين وحفظًا للكرامة، ودفاعًا عن العزّة..
هنا الدراز.. معقل الإباء وملتقى الثائرين مع قائدهم.. وموعد الأبطال في يوم النزال..
ثلاثمئة يوم من الجهاد والتضحية مرّوا، ومرابطو الدراز ما زالوا على العهد والوفاء، حامين الفقيه القائد، باذلين المهج والأرواح، غير آبهين بالمشاق والمصاعب، وصامدين حتى بزوغ فجر الانتصار.
مشاهد الدراز اليوم ترويها قصص العاشقين الذين التزموا الثبات في أرض الطهر، وتقصّها مشاعر متناقضة من الفرح والحبّ والبطولة، إلى الحزن والألم والمعاناة.
هنا في زاوية قرب منزل الفقيه القائد، والد وولد، عشقا القضيّة فذابا بها حتى النخاع، وهناك امرأة باعت دنياها ومنحتها بكلّ وفاء وعطاء في سبيل بقاء عزيز الأمة، وفي أمكنة أخرى وفي كلّ زاوية حكاية من حكايات الدراز، يروي فصولها أبطال، هم أبناء الوطن الذي يكبر فوق كلّ شيء، والذي هو أغلى من الروح والدماء والأبناء.
وإلى جانب آخر من شارع الصمود شبّان ثائرون حملوا دماءهم على أكّفهم، وأبوا أن يسلّموا قائدهم طالما عروقهم تنبض بالحياة، فقلوبهم وعقولهم أدركت حجم المؤامرة وفهمت أنّ الدين والعقيدة هما الهدف، وأمام هذين ترخص الحياة وتطيب الشهادة.
اقتربت من شاب بعمر الربيع، هو صديق لشهيد الدراز البطل «مصطفى حمدان»، رأيت الدموع تتلألأ في عينيه، لا ضعفًا ولا هزيمة، بل كانت دموع ثائر بطل اشتاق إلى بطل رحل، وتمنّى اللحاق به لتسكن الروحان معًا في جنّة الخلود.
عندما سألته عن الشهيد، تنهّد طويلًا، وكانت تنهيدته كتنهيدة رجل خمسينيّ عايش الآلام والمصاعب طوال عمره، وأخبرني عن مصطفى الذي لم نعرفه إلا بعد رحيله، والذي لم يتعرّف العالم إليه إلّا وهو مستلق على سرير المستشفى بكلّ راحة واطمئنان، بعد أن أدّى الواجب وأسقط الغزاة ودحرهم، ومنعهم بدمائه من الوصول إلى الفقيه.
أخبرني صديق مصطفى عن اللحظات الأخيرة معه، كانا معًا، سهرا معًا، وعندما دخل «المجرمون» تصدّيا معًا. يقول إنّه رأى مصطفى كما لم يرَه من قبل، وكأنّه كان يدرك أنّ لحظته قد حانت، وأنّ ساعة اللقاء مع الأحبّة الذين سبقوه قد جاءت، وأنّ عرسه قد اقترب كثيرًا، «أوصاني بأمّه والدموع تنسكب على وجنتيه، وأوصاني بشدّة وحماسة بأن نموت جميعًا دون تسليم الفقيه، وهنا أدركت أنّ ما يراه مصطفى لا نراه أبدًا».
وعند التصدّي كان مصطفى هو البطل، لم يتراجع؛ بل كان يقف في الصفّ الأمامي في معركة الدفاع عن القائد، لم يخف أبدًا من رصاصاتهم، ولم ترهبه أسلحتهم، ولا إرهابهم، ثمّ أبعدهم عن الفقيه وسقط وسقطت معه القلوب.
وإلى أمّ الشهيد، التي تجلّت بموقفها مظاهر العزّة بأبهى صورها، نهديها سلامًا طأطأت حروفه رؤوسها خجلة، وتحيّة تملؤها المحبّة والافتخار بولدها الذي قدّم روحه ليحيا الوطن، وليبقى الفقيه راية خفاقة تنير دروب الثائرين.
هنا الدراز.. حيث الموعد مع الفداء في أرض الفداء، وهنا حيث الثورة انتعشت من جديد، وحيث لا مكان للاستسلام ولا الخضوع للظالم، وهنا حيث العالم سيشهد على بطولات الثائرين الذين سيكتبون التاريخ المشرف بصمودهم وصلابتهم وعزّتهم، وبدمائهم حين يستلزم ذلك.
هنا الدراز.. وهنا يضرب الأبطال موعدًا مع الجلّادين «إنّنا نحن آتون إليكم».. ومن هنا بدأت الحكاية…