منامة بوست (خاص): وقّع ملك البحرين مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون القضاء العسكريّ بعد سلسلة من الإجراءات «غير المعقّدة»، ينصّ على السماح بمحاكمة مدنيّين أمام القضاء العسكريّ، في خطوة تؤكّد السعي الحثيث لعباقرة الديكتاتوريّة في البحرين لتشديد القبضة الأمنيّة في البلاد في مواجهة كلّ أشكال المعارضة.
التعديل الدستوريّ المذكور يستبدل المادة (105/ ب) التي تنصّ على أن يقتصر اختصاص المحاكم العسكريّة على الجرائم العسكريّة التي تقع من أفراد قوّة دفاع البحرين والحرس الوطنيّ والأمن العام، ولا يمتدّ إلى غيرهم إلّا عند إعلان الأحكام العرفيّة، وذلك في الحدود التي يقرّرها القانون، والاستعاضة عنها بأن «ينظّم القانون القضاء العسكريّ، ويبيّن اختصاصاته في كلّ من قوّة دفاع البحرين والحرس الوطنيّ وقوّات الأمن العام».
مخاطر القانون الجديد
يتخوّف مراقبون ونشطاء من أن يكون وراء هذا التعديل الدستوريّ أهداف انتقاميّة من كلّ المعارضة التي تواجهها السلطات في البحرين على اختلاف توجّهاتها، وإمعان جديد في سياسة تكميم الأفواه التي تتبعها العائلة الحاكمة في البحرين منذ سنوات طويلة عبر ملاحقة كلّ من يصدر عنه أيّ موقف اعتراضيّ، واستخدام كلّ الوسائل القمعيّة ضدّ المعارضين السياسيّين والنشطاء الحقوقيّين والسياسيّين لتمتدّ هذه القبضة الأمنيّة لتطال المواطنين أيضًا.
ولا شكّ في أنّ التصريحات الكثيرة للمسؤولين «الخليفيّين» قد عزّزت المخاوف الكبيرة من القانون الجديد، والتي دلّلت بوضوح على الأهداف الحقيقيّة لمثل هذا التعديل الدستوريّ الذي، بحسب أحد المسؤولين في وزارة الداخليّة، «يسمح للجهات المختصّة بإحالة بعض الجرائم التي تشكّل ضررًا على المصلحة العامّة إلى القضاء العسكريّ، ويهدف إلى حماية الأجهزة الأمنيّة بما في ذلك منشآتها وأفرادها وضباطها من جميع الأعمال الإرهابيّة».
الخطورة هنا تكمن في معيار تحديد «السلطات الخليفيّة» وتقديرها الاستنسابيّ لمعنى «الضرر على المصلحة العامّة»، ما يجعل أيّ مواطن بحرينيّ عرضة للملاحقة القضائيّة العسكريّة لمجرّد عدّ أيّ عمل يقوم به مساسًا بالمصلحة العامة، ما يجعل هذا الأمر خاضعًا للكثير من التأويلات والاجتهادات التي تسمح بإحالة أيّ متهم تحت هذا العنوان إلى المحاكمة العسكريّة.
والخطورة الأكبر التي تكمن هنا هي في أنّ البحرين تشهد منذ أكثر من ست سنوات حراكًا ثوريًّا مناهضًا للديكتاتوريّة ومطالبًا بالحريّة، وتظاهرات يوميّة في مختلف المناطق رفضًا للتسلّط والظلم؛ ما يجعل دائرة المستهدفين بهذا القانون أوسع، لتشمل أيّ مواطن يشارك في تظاهرة أو أيّ ناشط أدلى برأيه ولو بكلمة حتى لو كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ.
القضاء العسكريّ والقانون الدوليّ
القضاء العسكريّ بمفهوم القانون الدوليّ هو مجموعة القوانين والإجراءات التي تحكم أفراد القوّات المسلّحة. لذا فإنّ المحاكمات العسكريّة للمدنيّين تعدّ من الانتهاكات الصارخة لمواثيق القانون الدوليّ، حيث إنّها تنتهك المقتضيات الأساسيّة للقانون الدوليّ للمحاكمات العادلة بما في ذلك الحقّ في المحاكمة أمام محكمة مختصّة ومستقلّة ونزيهة.
لذا فإنّ السماح للمحاكم العسكريّة بمحاكمة المدنيّين وملاحقتهم هو بحدّ ذاته السماح بأحكام عرفيّة، والتي هي نظام استثنائيّ تلجأ إليه الدول في حالة الأزمات واختلال الأمن، وتقرّر فيه حالة الطوارئ ومنع التجوّل حتى يزول الخطر عن البلاد، وغالبًا ما يقرّر حاكم الدولة هذه الأحكام العرفيّة.
منظّمات دوليّة تعارض التعديل الدستوريّ في البحرين
سلك قانون التعديل الدستوريّ بتوسيع صلاحيات القضاء العسكريّ في البحرين مساره دون أيّ عوائق تذكر وبسرعة قياسيّة في ظلّ الهيمنة المطلقة لحمد بن عيسى آل خليفة على كلّ السلطات في الدولة، ما جعل مروره في مجلسي الشورى والنواب «الصوريّين» بمثابة مسرحيّة هزليّة، تسابق فيه الأعضاء إلى المزايدة على «ملك البحرين» نفسه في ادّعاء حرصهم على أمن البلاد وسعيهم إلى حماية «الوطن» من مواطنيه أنفسهم.
القانون مرّ بسهولة تامّة على الرغم من الاعتراضات الدوليّة على إقراره من منظّمات حقوقيّة عبّرت عن تخوّفها من أنّ توسيع صلاحيات القضاء العسكريّ وملاحقة المدنيّين عسكريًّا يهدفان إلى مواجهة المعارضين وإسكات الأصوات الناقدة في البلاد.
نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش جو ستورك، قال إنّ محاكم البحرين مدنيّة وعسكريّة جزء من منظومة القمع التي تستهزئ بمعايير المحاكمة العادلة في محاكمة المعارضين السياسيّين، وإنّ الحلّ لا يكمن في ضخّ مزيد من السرعة والمرونة في نظام القضاء البحرينيّ، وهو أصلًا مجحف للغاية.
منظّمة العفو الدوليّة حذّرت أيضًا من هذا التعديل الدستوريّ حيث رأت أنّه يمهّد الطريق لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، وقالت إنّها تعارض بشكل قاطع محاكمة المدنيّين أمام المحاكم العسكريّة لأنّها تتعارض مع المتطلّبات الأساسيّة للقانون الدوليّ والمعايير الدوليّة للمحاكمات العادلة، لافتة إلى أنّ المحاكم العسكريّة في 2011، حين كانت البحرين تحت حالة الأحكام العرفيّة، قد قضت بالسجن على عشرات الناشطين والمعارضين والحقوقيّين والمعلمين، والأطباء والممرضين بسبب مشاركتهم في التظاهرات أو معالجتهم الجرحى من المتظاهرين، وذلك في محاكمات جائرة على نحو فادح.
لجنة بسيوني والمحاكمات العسكريّة
بعد اندلاع الحراك الثوريّ في شباط/ فبراير 2011، وبعد تزايد عمليّات القمع التي قامت بها «السلطات الخليفيّة» للمظاهرات المطالبة بالديمقراطيّة والحريّة، أنشأ حمد بن عيسى لجنة لتقصي الحقائق في محاولة لإيقاف الحراك والانقلاب عليه، متخفيًا بقناع محاربة الذين ارتكبوا مخالفات بحقّ المتظاهرين.
اللجنة التي ترأسها القاضي شريف بسيوني توصلت إلى أنّ محاكم البحرين، ومن بينها المحاكم العسكريّة، أدانت مئات الأفراد بناء على اتهامات مسيّسة متصلة بممارستهم الحقّ في حريّة التعبير والتجمّع السلميّ، وأوصت اللجنة بإلغاء أو تخفيف الأحكام الصادرة بالإدانة على الأشخاص المتهمين بجرائم تتعلّق بحريّة التعبير السياسيّ، والتي لا تتضمّن تحريضًا على العنف وإسقاط التهم التي لم يتمّ البت فيها ضدّهم.
كما رأت اللجنة أنّ أفراد الأمن ارتكبوا انتهاكات ضدّ أفراد رهن الاحتجاز تشكّل إساءة معاملة متعمّدة في بعض الحالات، كانت بقصد الحصول على الاعترافات والإقرارات بالإكراه.
إذًا فإنّ تقرير لجنة بسيوني «المحايدة» أقرّ بشكل واضح بوجود محاكمات عسكريّة للمدنيّين، وانتهاكات فاضحة لحقوق المواطنين الذين تمّت محاكمتهم ضمن المحاكم العسكريّة في مخالفة واضحة للقوانين الدوليّة وتأكيد السياسة العدائيّة التي تتبعها السلطات في البحرين.
تفعيل القضاء العسكريّ.. حالة طوارئ دائمة
بتاريخ 15 مارس/ آذار 2011، أصدر حمد بن عيسى آل خليفة مرسومًا ملكيًّا بفرض حالة الطوارئ لمدّة ثلاثة أشهر، وقضى المرسوم بإنشاء محاكم عسكريّة خاصّة، سميت «محاكم السلامة الوطنيّة»، بدأت على الفور في التحقيق والمقاضاة بما يمسّ حريّة التعبير وحريّة التجمّع السلميّ.
وبعد رفع حالة الطوارئ في حزيران من العام نفسه، استمرّت هذه المحاكم في النظر بتلك القضايا التي كانت قد أحيلت إليها بالفعل، حتى صدر مرسوم ملكيّ جديد بإحالة كلّ هذه القضايا إلى محاكم مدنيّة.
يعيدنا القانون الجديد بالتعديل الدستوريّ لتوسيع عمل القضاء العسكريّ إلى تلك الحقبة عندما اندلعت ثورة الرابع عشر من فبراير، تلك الحقبة التي استباح بها النظام كلّ المحرّمات، وأمعن في استهداف المعارضين بكلّ أنواع الاضطهاد التعسفيّ والإجراميّ دون مراعاة لأيّ من العهود أو المواثيق الدوليّة، وغير آبه بكلّ الأصوات الدوليّة التي دعته إلى إيقاف ممارساته القمعيّة تجاه شعبه من قتل وتعذيب واعتقال.
ويأتي إقرار هذا القانون ليضع البلاد أمام حالة شبيهة بحالة الطوارئ التي أعلنت عام 2011، لكنّ الفارق الجوهريّ اليوم هي أنّ هذه الحالة اليوم أصبحت دائمة، وأصبحت داخلة ضمن الدستور ما يجعل ملاحقة المعارضين أمرًا أسهل بنظر القانون.
واليوم، وفي غمرة الأحداث التي تعصف بالمنطقة، وبروز ظاهرة الإرهاب وتشكيل التحالفات الدوليّة والعربيّة لمحاربته، ثمّة توقّعات بأن يكون هذا التعديل الدستوريّ الشبيه بإغراق البلاد بحالة الطوارئ، ذريعة للنظام الاستبداديّ لحفظ الأمن وركوب موجة محاربة الإرهاب، مع ما يعنيه ذلك من فتح الباب واسعًا أمام المزيد من الملاحقات القضائيّة وتوجيه التهم المزوّرة للمعارضين بتهم الإرهاب والانتساب إلى منظّمات إرهابيّة، ما يضع البحرين أمام مزيد من القمع والأحكام الجائرة التي تطال كلّ من لا يرضى عنه النظام.
ولعلّ حديث وزير العدل خالد بن علي آل خليفة هو تجسيد واضح لهذه المخاوف من خلال قوله إنّ «بقاء المادة الدستوريّة بالشكل السابق لا يسمح للدولة بالتعامل مع أيّ جماعات أو ميليشيات حال أيّ اعتداء إلّا بإعلان حالة الأحكام العرفيّة»، مشدّدًا على «ضرورة أن يكون هناك اختصاص يسمح للقضاء العسكريّ بالتعامل مع هذه القضايا».
والأبرز في حديث وزير العدل وربما الأخطر إقراره أنّ «من يقوم بعمل عدائيّ منتميًا إلى ميليشيات أو جماعات أو باسم إحدى الدول التي تموّل تلك الأعمال مساندة منها أو حتى دون ذلك.. فإنّ عمله يعدّ عملًا عسكريًّا وليس مدنيًّا.. والقضاء العسكريّ هو الأكثر قدرة على تفهّم الأعمال العسكريّة.. والسرعة والحزم والإنصاف متوفرة في القضاء العسكريّ».
كلام يفضح النيّات الخبيثة المبيّتة للنظام الخليفيّ، ويكشف عن أهداف لدى هذا النظام في تسريع عمليّات الإدانة ضدّ من يصفهم بالإرهابيّين أو يتهمهم بالانتماء إلى جماعات مرتبطة بالخارج، وفي هذا تصويب واضح على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، التي يعمد النظام كلّ مرّة إلى الزجّ باسمها وربطها بكلّ الاتهامات التي يسوقها إلى المتهمين بهذه القضايا.
القضاء العسكريّ والحراك الثوريّ
يدرك النظام الحاكم المستبدّ في البحرين أنّ كلّ الإجراءات والممارسات والانتهاكات التي قام بها منذ انطلاق الحراك الثوريّ قبل أكثر من ستّ سنوات، لم تجد نفعًا، حيث كانت كلّها تهدف إلى القضاء على هذا الحراك وفي كثير من الأحيان كانت هذه الممارسات تهدف إلى شيطنة الحراك، مرّة من خلال وصمه بالمذهبيّة ومحاولة ترويجه حراكًا شيعيًّا في مواجهة السنّة، ومرّة أخرى بترويج تبعيّة المعارضين للخارج وعدم انتمائهم للوطن. ونسجت على هذا الأساس كلّ التهم والادّعاءات بحقّ النشطاء والمعارضين، وكالت لهم التهم المختلفة وحكمت على المئات بالسجن ومنهم من حكم عليه بالمؤبد.
لكن على الرغم من هذه الإجراءات، وعلى الرغم من القانون الجديد الذي يحاول أن يقيّد النشاط الثوريّ بشكل كليّ، فإنّ القوى الثوريّة في البحرين وعلى لسان أكثر من قياديّ ميدانيّ أكّدت، بما لا يدع مجالًا للشكّ فيه، أنّ كلّ القوانين التي تبتدعها السلطة الجائرة، وكلّ الممارسات التي تهدّد بالقيام بها لن تشكّل أيّ عائق أمام الثوريّين من أجل الاستمرار في نهجهم، وعدم منح المستبدّ الحاكم الفرصة لالتقاط أنفاسه أمام المدّ الثوريّ المبارك.